Friday 20 August 2010

Sastra


أ.د/ عبد الحفيظ حسن

أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن

وكيل الكلية للدراسات العليا والبحوث

العلاقة وثيقة بين الأدب العربي والأدب الإندونيسي، ويتضح ذلك في أمور كثيرة منها : وحدة الفكر والثقافة والعقيدة والتأثر والتأثير بين هذين الأدبين؛ فالأدب العربي هو الدوحة الكبرى وقطب الرحى والآداب الإسلامية أغصان وفروع تفرّعت عنه، ثم أفادت تلك الآداب من البيئة المحلية ومعطيات الزمان والمكان. وهناك تقارب في الشكل الفني والصور الشعرية؛ ويتضح ذلك من وجود عدد هائل من الكلمات العربية في لغات الشعوب الإسلامية ، قد تتجاوز نصف كلمات بعضها ، وقد تنقص عن ذلك ، لكن التأثير واضح للعيان ، يُضاف إلى ذلك أن معظم تلك اللغات تستخدم الحرف العربي، أو كانت تستخدمه ثم تركته بتأثير الاستعمار الغربي وأعوانه. والتقارب بين الأدباء المسلمين مظهر من مظاهر الوحدة والتضامن بسبب وحدة العقيدة والثقافة والتاريخ ، وهذا التقارب ينبغي الاستفادة منه في تنمية الشعور بأن أمة الإسلام أمة واحدة مهما اختلفت لغاتها وأوطانها ، لفتح آفاق واسعة للدراسات المُقارنة بين آداب الشعوب الإسلامية بسبب وجود مجالات رحبة للمقارنة، ناتجة عن عوامل التأثر والتأثير والتداخل بين تلك الآداب. التعرف الدقيق على أوضاع العالم الإسلامي من خلال دراسة نتاجه الفكري والأدبي.


تعتني جامعة قناة السويس بالأدب الأندونيسي :

وتعد جامعة قناة السويس من الجامعات الرائدة في الاهتمام بالأدب الأندونيسي ؛ فقد رعت كلية الآداب عددا من الدارسين والباحثين في مراحل مختلفة منذ عام2005م ، خدمة للأدب العربي والإندونيسي.

وأقترح :

1-تدريس اللغة الإندونيسية في الجامعات المصرية وبخاصة جامعة قناة ؛ بفتح قسم للأدب الإندونيسي في الكلية لتقوية أواصر الترابط بينها . وتقديم مواد عن أدب الشعوب الإسلامية ضمن قسم اللغة العربية والأدب العربي. وتدريس بعض تلك اللغات في أقسام اللغة العربية والتاريخ والحضارة. وتدريس تلك اللغات عن طريق دورات لغوية في مركز اللغة العربية والترجمة . والاهتمام بالبحوث اللغوية التأصيلية المقارنة والتقليدية بين اللغة العربية ولغات الشعوب الإسلامية ، ومنها اللغة الإندونيسية . وتوجيه طلاب الدراسات العليا إلى إعداد رسائل في هذا المجال.

وأقترح كذلك ترجمة التراث الأدبي الإندونيسي إلى اللغة العربية، وهذا الأمر يحتاج إلى جهود كبيرة من قبل مجموعة من المؤلفين. وإصدار سلسلة بعنوان: "أدب الشعوب الإسلامية"، يقوم بإعدادها مجموعة من المتخصصين في تلك الآداب، ويُخصص كل كتاب منها للحديث عن أدب واحد من آداب الشعوب الإسلامية. ويتم تحديد الأسس العامة لتلك الكتب وفقا لعدد من الضوابط ، مثل :

1-أن يشتمل الكتاب على معلومات تاريخية ولغوية وأدبية، على أن يتم التركيز على الجانب الأدبي بالدرجة الأولى.

2-الإكثار من النصوص الإبداعية؛ لأن الهدف الأول للسلسلة هو الإبداع الأدبي.
3-حسن الاختيار للنصوص الأدبية، وتجنب النصوص الضعيفة في شكلها أو مضمونها، أو توجهاتها الفكرية.

4-الاهتمام بالمقارنة بين آداب تلك الشعوب والأدب العربي.

5-تنمية الروابط الأدبية بين الأدباء المسلمين الذين يُبدعون بلغات مختلفة.


وقد صدرت بعض الكتب منها :

-الأدب التركي الإسلامي، للأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف هريدي، (325 صفحة)، عام1407هـ.

- الأدب الأردي الإسلامي، للدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، (760صفحة)، عام 1411هـ،

-الأدب الأفغاني الإسلامي" للدكتور محمد أمان صافي، في (499 صفحة) وصـدر عام1417هـ،

- الأدب الأندونيسي الإسلامي" للدكتور محمد فؤاد فخر الدين،

وكتاب "الأدب الماليزي الإسلامي" للدكتورة بلقيس أبو بكر.

ونأمل أن تكتمل مكتبة "آداب الشعوب الإسلامية" لتكون إنجازاً أدبيا ، وإسهاما مميزاً للجامعة في خدمة الأدب والتضامن والتقارب والتعارف بين الشعوب .

وهذا النموذج:

للشاعر الإندونيسي ( مرجان ) يكشف عن جوانب إنسانية رحبة يلمسها، ويعبر عنها في رهافة وفنية عالية ، يقول :
علِّمْني يا الله
إن كان أحدٌ يطرق بابي
رقِّق قلبي يا إلهي
علِّمني أحترم الضعيف
أسرِعْ خطواتي يا إلهي
لأُسرع في فتح الباب
في الإمكان أن يكون غريبا
مشى طويلا، يُريد الراحة
لا تجعلْني يا إلهي ممن ينهر المساكين
الذين يمُدون أيديَهم نحوي
إنهم أناسٌ غير قادرين
إذا لم أستطع تقديمَ شيءٍ
علِّمْني أُعاملهم بالحسنى -
علِّمْني الكلماتِ الرحيمة

تدل تسمية الأدب الإندونيسي على آداب الشعوب المتمدنة التي تقطن الجزر الإندونيسية، وتدل بالمعنى العام على تراث الآداب الشفهية للشعوب والقبائل الإندونيسية مثل شعوب باتاك ومينانغكابو وأتشه وداجاك وغيرها التي حافظت إلى حد ما على بدائيتها.

وهناك ثلاثة مؤثرات خارجية أسهمت في أزمنة مختلفة في تكوين الأدب الإندونيسي، أولها الحضارة الهندية ، ثم الحضارة الإسلامية إبان الرحلات والتجارة ، ثم الحضارة الأوربية في العصور الحديثة .

وقد تولد عن هذه المؤثرات ثلاث مراحل أدبية متتالية: الهندية الجاوية، ثم الإسلامية الملاوية، ثم الإندونيسية الحديثة. وتمتد المرحلة الأولى من القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس عشر ، وتمتد الثانية حتى مطلع التاسع عشر، وتليها الثالثة حتى القرن الحادي والعشرين.

والأعمال الأدبية التي تنتمي إلى المرحلة الهندية ، مرحلة ما قبل الإسلام في إندونيسيا، مثل «حكاية الأمير راما» Hikyat sri Rãma، تدل من حيث أسلوب التعبير وانتقاء المفردات على تأثير إسلامي جلي ، كما أنها مدونة بالخط العربي. وفي نحو عام 1400م وصل الإسلام إلى شبه جزيرة الملايو ، وساد في جاوة عام 1520م. وفي الوقت نفسه تقريباً بدأ الغزو الأوربي لهذه المناطق. ومع انتشار الإسلام عَرف الأدب الملاوي عالم الحكايات والملاحم الشعرية الفارسية الذي يتلاقى مع مثيله الهندي، كما استفاد المسلمون الإندونيسيون بذكاء من التراث الجاوي المتهند المترجم إلى الملاوية من أجل نشر الدعوة الجديدة، وذلك بإحلال شخصيات من التراث الإسلامي محل الشخصيات الملحمية .

ومع انتشار الإسلام في إندونيسية ظهر كثير من المؤلفات التشريعية والدينية والصوفية باللغات المحلية مثل قصائد الصوفي السومطري حمزة بانسوري Hamza Pansuri، ومؤلفات في حكمة الحياة ونظرية الأخلاق، مثل «تاج السلاطين» و«بستان السلاطين». وبلغ النثر الملاوي ذروته في التأريخ والرواية التاريخية، ولاشك في أن أهم مؤلَّف في هذا الميدان هو «تاريخ الملايو» الذي يُعد مدخلاً مهماً إلى الأدب الملاوي وإلى أنماط معيشة سكان المنطقة وأخلاقهم.

أما رواية «حكاية هانغ تواه» فهي أدبياً من أجمل ما قدمه الأدب الملاوي الذي دخل مرحلة نثرية جديدة مع عبد الله بن عبد القادر (1797 - 1854م)، فهو ينحدر من أب ملاوي وأم هندية، ويعد المعلم الذي لا يجارَى في سهولة أسلوبه باللهجة العامية الملاوية غير الأدبية. فعلى نقيض أسلافه ومعاصريه تخلى ابن عبد القادر واعياً عن تقاليد الأدب المتوارثة، وأشهر أعماله سيرته الذاتية «حكاية عبد الله» التي لم يدخلها أي مؤثرات خرافية أو خيالية. وهو يستمد مادته السردية من الوقائع التي عايشها في زمنه المتخم بالصراعات الاقتصادية والدينية والسياسية.

وما يسترعي الانتباه هو تسميته «بنغاليبور لارا» Pengalipur Lara أي قصص السلوان والمواساة التي يرويها «الحكواتي» الجوال، وقد حافظ هذا الأدب على نقائه من أي مؤثرات أجنبية، حاملاً خصائص النثر الأدبي الشعبي عامة، من حيث الإسهاب والإطناب والتكرار والشخصيات النمطية والإكثار من الأمثال. ويتغنى هذا الأدب في حكاياته بالماضي الملاوي السعيد المفتقد، وبالأمراء الفاضلين والأميرات الجميلات، وبالأبطال المحاربين الشجعان الذين يتوق الإنسان الملاوي إلى عالمهم، تعويضاً عن بؤس حاضره الذي يحاول أن يتغلب عليه بتبني نصائح الحيوانات الذكية في الحكايات المشابهة لـ «كليلة ودمنة» وممارستها والتي يكون بطلها دائماً غزالاً قزماً.

أما الشعر الملاوي فتعود أصوله في المرحلة الإسلامية إلى التعاويذ السحرية التي كان يستخدمها طاردو الأرواح والكهنة ويتلونها بمرافقة إيقاعات حرة، وهي تنقسم إلى شكلين شعريين: سجير Sjair المصحفة من سجع بالعربية، وبانتوم Pantum. تتألف بنية قصيدة السجير من عدة أبيات في كل بيت منها أربع كلمات، وتشكل معاً اثنى عشر مقطعاً تنتهي بقافية موحدة أو مختلفة بحسب الضرورة. وموضوعاتها ملحمية، لهذا قد تتألف القصيدة من آلاف الأبيات. وثمة تشابه كبير بين هذه القصائد من حيث الوزن والمفردات، وهي تتناول مصائر البشر وصراعاتهم الحياتية في مواجهة الحسد والكراهية، ولكن غالباً ما تنتهي القصيدة بخاتمة سعيدة، كما في الحكايات الشعبية، وقد تكون الخاتمة أحياناً مأساوية. ومن هذا النوع توجد قصائد تعليمية ذات موضوعات دينية أو أخلاقية، وقد تكون نقدية تتعلق بالوضع الراهن.

أما البانتوم فقد حظي بانتشار أوسع منذ القدم وبين جميع فئات الشعب، وتتألف قصيدته من أربعة أبيات، وكل بيت من أربع كلمات، وكل كلمة من مقطعين، وتنتهي الأبيات بقافية مختلفة. في البيتين الأولين يقدم الشاعر فكرته بلغة مرمزة مع التورية، وفي الأخيرين يأتي جوابه لتكتمل القصيدة في وحدة فنية لا حدود لموضوعاتها، من الحب والنصح والمديح وحتى السخرية اللاذعة. وقصائد البانتوم تُغنَّى، أما السجير فتقرأ من دون تنغيم، فهي أقرب إلى النثر المسجّع، كما في المقامات العربية.

أما الأدب الإندونيسي الحديث فهو في خصائصه الرئيسية وليد كفاح الشعوب والقبائل الإندونيسية من أجل استقلالها عن الاستعمارين البرتغالي والهولندي وفي سبيل إقامة دولة موحدة، وكذلك بهدف نشر لغة تكون رابطة إندونيسية للسكان كافة، بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني. فاعتُمدت اللغة الملاوية لحمل هذه المهمة الوطنية بسبب سعة انتشارها، ولكونها لغة الدواوين والثقافة والتجارة.

ومنذ مطلع القرن العشرين عمل العلماء على تطويرها حتى أعلنت عام 1945 لغة رسمية للدولة المستقلة باسم بهاسا إندونيسية Bahasa Indonesia. وفي هذا السياق كانت القضية المحورية لدى الأدباء المحدثين هي تجاوز الأجناس الأدبية التقليدية الجامدة في الأدب الملاوي وإيجاد أجناس جديدة قادرة على استيعاب قضايا العصر ومعالجتها. وطالب هؤلاء الأدباء على الصعيد الاجتماعي بالحرية الفردية المطلقة وبالانعتاق من أسر التقاليد الأخلاقية الموروثة التي تقيد هذه الحرية.

وكانت أول رواية مهمة تعبر عن هذه الأفكار هي «سيتي نورباجا» Sitti Nurbaja (1922 التي يعرض فيها كاتبها ( ماراه روسلي ) Marah Rusli مصير الشابة ( سيتي) التي تحطم حبها على صخرة التقاليد الأخلاقية والاجتماعية.

وفي عام 1928 نشر عبد المغيث Abdul Muis روايته «تربية خاطئة» Asuhan Salah التي يريد أن يثبت فيها تعارض الحضارة الغربية مع التقاليد المحلية، من زواج مختلط بين إندونيسي وأوربية. ومع التجديد الملحوظ الذي جاء به أدباء هذه المرحلة على صعيد الشكل والمضمون فقد بقي شعر السجير والبانتوم متجذرين في نفوس الإندونيسيين.

وفي عام 1933 أصدر الروائي ( تقدير علي جاهبانه ) Takdir Ali Jahbana مجلته الثقافية «الأدب الجديد» Pudjangga Baru التي جمعت أهم أقلام الثورة الأدبية، وبدأت مرحلة جديدة في الأدب الإندونيسي، فأصبح الكتّاب نقاداً للحركة الثقافية، ولكن سرعان ما انقسموا إلى تيارين متعارضين، أولهما يطالب بالتخلي عن الموروث الثقافي المحلي وبالتوجه نحو الغرب الحديث، كما في رواية «أشرعة منتفخة» لصاحب المجلة نفسه، وثانيهما يطالب بالنهل من معين التراث وتطويره باتجاه الحداثة، ومن رواد هذا التيار أمير حمزة وأرمين بانِه Armin Pan. حاول أمير حمزة في مجموعتيه الشعريتين «قصائد العزلة» و«ثمار الحسرة» تجديد شكل قصيدة السجير بمضامين معاصرة.

وإبان الاحتلال الياباني لإندونيسيا والحرب العالمية الثانية كان على الكتاب الشباب أن يناضلوا من أجل الاستقلال والتحديث الثقافي، وكان أحد رواده الشاعر شايريل أنور Chairil Anwar (1922- 1949) الذي أدخل الشعر الحر على التراث الشعري الإندونيسي، بمضامين تؤكد الفردانية المطلقة بدل الروح الجماعية. وسرعان ما جاء الرد على هذا التوجه الفرداني المتطرف على لسان رائد الحداثة تقدير علي جاهبانه الذي ألح على الدور الاجتماعي النضالي للأدب، متهماً جيل الـشباب بتأثره بالكتب الغربية بدلاً من الواقع المتخم بالمشكلات التي تطالب بحلول جذرية بهدف تطوير المجتمع الإندونيسي. كتب مؤرخو الأحداث الهنود عن إندونيسيا منذ عام 600 قبل الميلاد، كما تشير الملحمة الهندوسية القديمة Ramayana إلى إندونيسيا.

وبدخول الإسلام بدأ العرب يتوافدون على إندونيسيا منذ القرن الثالث عشر الميلادي، حيث انخرطوا في التجارة مع الحضارات العظيمة في منطقة البحر المتوسط والهند وجنوب شرق آسيا والصين.

وتعتبر إندونيسيا من الدول القليلة التي لم ينتشر فيها الإسلام بالفتح العسكري، فقد كان إغراؤه نفسيا في المقام الأول. ونظرا لما ينادي به من المساواة بين البشر وبما له من حجة علمية. لقد جذبت تعاليم الإسلام وبساطته المتمثلة في التجار المسلمين، انتباه شعوب هذه الجزر، بحكم اشتغالهم بالتجارة أيضا، لما وجدوه من فضائل في الإسلام تحض على الكسب الحلال والعمل الجاد والنظافة والسير في الأرض لما فيه من فوائد وعبر.

وتأثر الأدب بالإسلام تأثرا كبيرا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وكان لفضيلة الشيخ والأستاذ الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - دورٌ بارز ومتميِّز في ميدان الرحلات؛ لكثرة رحلاته وتنوعها، واتساع مداها؛ ولتناوله هذه الرحلات فيما كتب من مقالات، وما نُشر من مؤلفات.

وقد بدأ رحلاته مبكراً؛ فبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة (البكالوريا)سنة 1928م كثرت رحلاته إلى دول مجاورة أو بعيدة، وتعدَّدت وتنوَّعت أهدافها؛ بين طلب العلم، والعمل، والعبادة، والاكتشاف، والدعوة، والعمل لقضايا الأمة، والمشاركة في المؤتمرات الإسلامية. ولو اقتصرت رحلاته هذه على تحقيق ما يرنو إليه منها؛ لنسيها هو ولم نذكرها نحن، ولكنه عمد إلى الحديث عنها والكتابة فيها، كما فعل الشعراء في ارتحالهم، والمستكشفون في جولاتهم.

والشيخ الأديب علي الطنطاوي ذو وخيال مجنَّح ، ونفس مرهفة، وعين دقيقة في التقاط كل جديد وعجيب ومثير ومؤثر! كما أن ذاكرته قوية في الاحتفاظ بما يراه أو يسمعه أو يدركه؛ فقد بقي متوقد الذهن، يستعيد المشاهد، حتى حين بدأ يكتب ذكرياته، أو يتحدث عن رحلاته بعد مضي نصف قرن على بعضها!!.

لقد جوَّب في الآفاق، فزار مصر والعراق والحجاز مراراً، كما زار إيران وباكستان والهند وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، وزار ألمانيا وأماكن أخرى، ولم يفته أبداً أن يتحدث - أو أن يكتب - عن كل زياراته هذه، حتى استغرقت قسماً كبيراً من حلقات ذكرياته، كما شغلت حيزاً كبيراً من أحاديثه الإذاعية والتلفزيونية، وأصدر عنها عدَّة كتب، سجَّلها بأسلوبه الأدبي.

تنوع ما يتناوله في رحلاته:

وهو -في حديثه عن رحلاته- لم يكن يكتفي بذكر جمال طبيعة البلاد التي يزورها، أو قسوة الظروف التي يعانيها؛ بل كان يُبرز دائماً ما خلَّفته هذه الديار من أثر في مشاعره وأحاسيسه، ويستعرض -أحياناً- تاريخ تلك البلاد بإيجاز، ودخول الإسلام إليها، والظروف الاجتماعية التي يعيشها الشعب فيها، وعاداته وتقاليده، وما قام به من بطولات، وما قدَّمه من تضحيات حتى تحرر من الاستعمار؛ فهو يقول: "وأنا حين أهمُّ بالكتابة عن بلد؛ لا أصف طبيعة أرضه، ولا تحديد مساحته وحاصلاته؛ ولكن أحاول أن أصف مدى شعوري به، ومبلغ ما له في نفسي".

وقد تحدَّث بتفصيل أو بإيجاز في "ذكرياته" عن زيارته إلى مصر، مروراً بفلسطين، وعن زيارته إلى بغداد سنة 1936، وعن زيارته إلى القدس 1954، وإلى كراتشي ودلهي وسنغافورة وماليزيا، وأخرى إلى ألمانيا 1970، كما تحدث عن قدومه إلى الرياض.

(جَاوَة) جنة الدنيا:

فهو عندما وصل إلى (جاكرتا) رآها جنة الدنيا، وعدَّها (سويسرا الشرق)، فيقول: "وليست جنة الدنيا الشام ولا لبنان ولا سويسرا، ولكنها (جَاوَة)، مَنْ رآها فقد علم أني أقول حقّاً، ومَنْ لم يرها لم يغنه عن مرآها البيان! أمضيتُ فيها يومين، ما رأيت في حياتي يومين كانا أمتع لنفسي متعةً، وأحلى في عيني منظراً، وأبقى في قلبي أثراً منهما، قطعت فيها الجزيرة بالقطار، في طريقٍ ما رأيتُ ولا سمعت - ولا أظن أني سأرى أو أسمع - أن في الدنيا طريقاً أجمل منه".

ويتناول عادات أهلها وطباعهم فيقول: "والقوم في إندونيسيا أرقُّ الناس نفساً، وأرهفهم حسّاً لا يحتملون شدةً ولا عنفاً، ولقد لمتُ السائق مرةً على ذنب أذنبه، ورفعت صوتي عليه؛ فبقي أياماً متألماً! وما سمعتُ في إندونيسيا ضجةً، فالشوارع تكاد تكون هادئة، والكلام يكاد يكون همساً، وما رأيت فيها (خناقة)، و(الخناقات) في الشوارع مقياس أعصاب الأمم، وفيها لا يكون سبٌّ أبداً؛ لأن لغتهم -كما أظن- خالية من ألفاظ السباب!! ".

ثم يعود ليكمل حديثه عن وسيلة نقل أخرى هي (الرَّكْشَة)، وهي: "عربةٌ صغيرةٌ لها مقعدان، يجرُّها إنسانٌ! يعدو بها حتى يتصبب عرقاً ويلهث تعباً".

ثم يذكر أنواعها المتطورة، ويقارن بينها وبين مثيلاتها في (كلكتا) و(كراتشي).

ويصف احتفال المسلمين -هناك- بعيد نزول القرآن!! فيقول: "يجعلونه أكبر أعيادهم، ويحتفلون به احتفالاً ضخماً في القاعة الكبرى من قصر الرئاسة، ويشترك رجالهم ونساؤهم في الاحتفال، يجلس الرجال في المقاعد اليمنى، والنساء في المقاعد اليسرى، لا يتجاورون في المجالس، وأكثر النساء الحاضرات قد ألقينَ المناديل على رؤوسهنَّ، فسترنَ بها شعورهنَّ. وافتتحت الحفلة بآيات من القرآن، تلتها قائمةً أمام المذياع زوجة الرئيس سوكارنو، بصوت رخيم، وقراءة فصيحة صحيحة المخارج، وقد عجبت من قراءتها القرآن دون الرجال فعجبوا من عجبي!! ".

محمود شوقي الأيوبي شاعر الطبيعة الإندونيسية

ولد الشاعر محمود شوقي الأيوبي في الكويت عام 1900م (1319هـ)، وقيل عام 1901م، ووالده من أصول كردية، وكان قد نزح من العراق إلى الكويت، وكان يُطلق عليه "عبد الله الكُردي"، أما أمه فمن عرب "المنتفك". وقد أسماه والده محموداً، ولكن الشاعر أضاف إلى اسمه اسم "شوقي" لشدة إعجابه بالشاعر أحمد شوقي.

ودرس محمود شوقي الأيوبي في كتاب المُلا عبد الله الأنصاري، ثم في المدرسة المُباركية، وقد سافر إلى البصرة، ثم إلى بغداد حيث درس في دار المعلمين العالية، وبعد انتهاء الدراسة عمل مدرساً في قرية "أبي الخصيب" بالعراق.

ورحل بعد ذلك إلى سورية ولبنان وفلسطين ومصر، ثم رجع إلى العراق، ثم عاد إلى الكويت ليعمل مدرساً بالمدرسة المباركية، ولكنه يترك الكويت إلى العراق مرة ثالثة ليلتحق جنديا بسلاح الخيالة.

ثم سافر إلى الإحساء، فالرياض في ربيع الأول 1348هـ (إبريل 1939م)، وأدَّى مناسك الحج، ثم هاجر إلى إندونيسيا للدعوة والتعليم، بتكليف من الملك عبد العزيز، وأقام هناك عشرين سنة، من 1349-1369هـ (1930-1950م).

وقد عاد الأيوبي إلى الكويت عام 1950م حيث أقام في قرية الشعيبة، وتوفي في ذي الحجة 1385هـ (مارس 1966م).

وشعره كثير جدا، نشر بعضه في جريدتي "أم القرى" و"الإصلاح"، وهناك تداخل في دواوينه، فقد ينشر القصيدة الواحدة في ديوانين.

ومن دواوينه المطبوعة:

1-الموازين: طُبع في دار المعارف بمصر عام 1953م، من قبل البعثة الكويتية بالقاهرة في (450) صفحة، ويشتمل على (140) قصيدة.

ويقول الأيوبي عن هذا الديوان "قصائده قصيرة، وهي من وحي صباح الفردوس الاستوائي (إندونيسيا) المجاهدة، تلك البلاد المحبوبة التي مكثت فيها نحو عشرين عاما، وإن أفضل ما يُهدي المواطن سِفراً لأبناء وطنه، هي عصارته الروحية التي تمخّضت عن تجارب قاسية فهي للشباب في عنفوان فتوته دروس، وللشيوخ في مجالسهم رياحين النفوس".

وقد تحدث في الديوان عن مكارم الأخلاق، وعظمة الخالق، ودقة نظام الكون.
2- رحيق الأرواح: طبع في القاهرة في دار العهد الجديد عام 1955م من منشورات رابطة الأدب الحديث ويقع في (352) صفحة، وقد طُبِع على نفقة الخفاجي صديق الشاعر، وقد نظمه في إندونيسيا في فترة من أحلك فترات حياته.

ومن عناوين قصائد الديوان: رحيق الأرواح، ومنبر النجوى، ولحن الكروان، ومحراب الشاعر، وشهوة الظلام، وقلب الشاعر، ودموع السلام، وأخلاق الحب، وطهر الحب، وأحلام الشباب، ومصباح الهوى، وعروس البحر، والأمواج، وبرزخ الحيرة، والمزامير، وبين الأرواح والأشباح، والمرايا والغياهب.

وكان الأيوبي محبا للطبيعة بشكل لافت، ومن العجيب أننا نراه يبدأ قصيدته في رثاء زوجته الأولى، وكانت إندونيسية، بوصف الطبيعة الساحرة، بل يكشف العنوان عن هُيامه بهذه الطبيعة الفتّانة، حيث يُعنْون قصيدته "الأيام السوداء في الفردوس الاستوائي: الإندونيسي"، يقول في مطلع قصيدة الرثاء:

تمتَّــعْ بمرْأى الحُسْنِ في وردَةْ الخَدِّ
وفي الأعْيُنِ الدَّعْجاءِ، والجيدِ، والنَّهْدِ
وذُقْ خمرةَ الفردوسِ في الجيدِ واللُّمى
ففيها شِفـاءُ النَّفْسِ والقلبِ والكِبْدِ
وإنْ رُمْـــتَ غاداتِ الجنانِ فإنَّها
على الأرْضِ مـنْ وَهْدٍ تسيرُ إلى وَهْدِ
وإنْ رُمْتَ فرْدوْســـاً مُقيماً، فإنَّهُ
بجاوا عروسِ الشرقِ، بلْ جنةِ الخُلْدِ
تفَجَّرَ يُنْبوعُ الجمالِ بِساحِـــها
ولكـــنَّ جاوا للطبيعةِ كالعِقْدِ
وقفْتُ بها في جنَّـةِ الوجْدِ والهوى
فأذْهلَني منْ سِحْـرِها سانِحُ السَّعْدِ
وأغْرَقْتُ روحي في أثــيرِ خلودِها
وَأَفْنَيْتُها في عالَمِ النُّـورِ والوجْدِ

ويحتل المديح قسما لا بأس به من تجربة محمود شوقي الأيوبي الشعرية في مهجره الإندونيسي، ومن هذه القصائد قصيدة يُهديها "للصديق العزيز والأخ الحميم في جاوة السيد محمد بن طالب بن مرعي الكثيري الهمذاني"، ويقول فيها:

حدا بي سحابُ الشوقِ، والشوقُ هاتفٌ
إلى صاحِــــبٍ في ذلكَ الحيِّ يمْرَحُ
أبرُّ بني همْدانَ للــــــدينِ والتُّقى
ومنْهُ غيوثُ الفضْلِ تهْمي وتَنْـــزَحُ
لمغْناكَ آسادُ العروبـــــةِ بادَرَتْ
مغمغِمَةً للمجْدِ ترْنو وتَطْمــــحُ
وما العزُّ إلا في حمَـــــاكَ مقرُّهُ
وأنتَ لهُ الباني إذا الناسُ طَوْهَحُــوا
تراقصت الألحـــانُ، ترنو مشوقةً
لمنزلكَ الميْمونِ ، والطَّيْـــرُ يَسْجَحُ
وسعْتَ صنوفَ الناسِ بالفضْلَ والحجا
وفي ريعِكَ الألبابُ تنْمو وتنْجــحُ

كان محمود شوقي الأيوبي في كل هذه الأشعار ـ كما يقول الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي بحق ـ "خصب الخيال، دقيق الشعور، عميق التجربة، متجدد الإحساس الفني المتصل بينابيع الإلهام الشعري الخالد، يكره التنقيح وتكلف التجويد الفني، ويضع الشعر ارتجالاَ أو ما يُشبه الارتجال، عازفاً عن الصنعة، كارهاً للتعجُّل والإغراب" رحمه الله رحمة واسعة.

0 comments:

Post a Comment